تــــانـــجــو

قصة قصيرة

بقلم عواطف حافظ


فى احدى زوايا الغرفة الأنيقة الهادئة وضع صورتها على حاملٍ كبير ؛ او الصورةٍ التى يتخيلها لها ويرسمها بيديه .. فى كل يومٍ يضيف اليها خطٍا جديدا ؛ او رتوشٍ معينة تُكون فى النهاية ملامح امرأةٍ مُتخيلة او ملامح المرأة التى تمنى ان تكون هذه ملامحها .. تلك المرأة التى يراها كل يومٍ عبر النافذة المشرعة فى غرفته ؛ لكنه لا يستطيع تحديد كامل ملامحها ؛ فالبنايات التى تحويهما متباعدة جداً ؛ لكنه و برغم المسافات ورغم كتلِ الفراغ يستطيع ان يراها ويتوقع متى تنظر اليه ومتى تشرد بفكرها بعيداً عن زاويته .. فقط كل ما يستطيع ان يراه هو تلك الخطوط المحددة لوجهها وشعرها وكتفيها ؛ وذلك ما خطه أولاً على اللوحة البيضاء الساكن فوق الحامل فى زاوية الغرفة . وما بين واقعية الخطوط وفراغ المساحات المكملة للملامح استطاع ان يعطى مساحة لتخيلاته فبدأ فى تخطيط الملامح فى المساحات الفارغة كما يتمنى .. .. فهذى الخطوط الكثيفةِ المتتالية تكون الأهداب المشرعة كما تخيل ان تكون ؛ تظلل تحتها عينانِ خضراوان بلون الزيتون .. لا يدرى لماذا اختار لون الزيتون ؛ ربما ليعطى لملامحها وعينيها هدوءاً وسلاماً تامين ِ.. اما فمها فقد رسمه اعتيادياً وكأنه طبع من رسومات الرومان القدماء و بشرتها فقد اختار ان تكون سمراء فهو يؤمن ان هناك سحرٍ خاص لصاحبات البشرة السمراء مع العيون الملونة . . ايامٍ كثيرةٍ مرت .. كانت حياته فيها هى حدود اللوحة الحقيقيةٍ الخطوطِ والمتخيلة الملامح .. ايامٍ كثيرةٍ مرت يكلم فيها اللوحة الصماء .. يقرأ عليها ما يحبه من الكتب والمقالات .. يسمعها خواطره التى يكتبها .. يسمعها موسيقاه الكلاسيكية التى يحبها واحياناً تتجسد له المرأة المرسومة فيأخذها بين احضانه ليعلمها الرقصة التى تمنى ان يعلمها اياها لو انه التقاها _ رقصة التانجو _ فكثيراً ما تمنى ان تشاركه رقصته فى تلك المساءات الممطرة التى كان يقضيها وحيداً . اما فى الصباح وبعيداً عن السفر فى انسيابية الخطوط فوق اللوحة البيضاء كان معلقاً بالنافذة .. يتمنى ان يلمح خطاً اخر من تفاصيلها لتكتمل داخل مخيلته ملامح امرأته . حتى تعامد الوجهان ذات صباح فلم يترك الفرصة ترتحل والتقط مرآة عكس عليها اشعة الشمس فى رسالة ِ سماوية إلى الحبيبة فى الطرف المقابل حتى تلتفت اليه .. اشار بيديه ان تنتظر قليلا وأحضر لوحته وكتب عليها بخطٍ كبير جداً .. أراكِ فى السابعة عند البحر . وبعد انسكاب اخر قطرة من الشمس فى زبد البحر كانت هناك ترقب الخطوط المكونةِ لملامح البشر .. حتى اكتملت الخطوط وتلاقت وأكملت صورة الفتى النحيف الذى يعبر الطريق الى عينيها .. عينيها الخضراوانِ كما تمنى . . عرف الطريق اليها دون ان يبحث فى الوجوه .. اخذ طريقاً مستقيماً يوصله قبالتها ليقف امامها تماماً كما يقف أمام صورتها هناك فى غرفته الهادئة . لم يقل شيئاً .. وكذلك هى .. فقط التقط يديها وارتحل بها .. لم تسأله الى اين .. استسلمت كأنها منومةً مغناطيسياً وسارا فى اتجاه البقعة الهادئة .. تلك البقعة التى يلجأ اليها كلما اخذه حنينة الى البحر .. ذلك البحر الذى يحبه كثيراً .. لكنه يحب أن يعيش معه اكثر بهذا المكان .. حيث يستطيع ان يرى خواء العالم واتساعه الا منتهى دون ان يزعجه احد .. يستطيع ان يغزل احلامه ويسكبها لتذوب فى زبد البحر دون ان يتطفل عليه متطفل . اجلسها بجواره وجلس .. كانت تدرك منذ البداية ما يود قوله حتى ولو لم يقل .. وكان يعرف انها توافقه وتحمل له نفس ما يحمله لها . وبعد صمتٍ علا به صوت فورانهما همس قائلاً .. اسمى احمد .. نظرت باهتةً فى عمق عينيه البنيتين ولم تنطق ببنت شفه .. فقط تقاطرت الدموع من عينيها كغيمةٍ شتويةِ اتت بعد سنواتٍ عجاف .. ماذا يبكيكى .. لماذا جزعتِ هكذا ؟؟ اسمى “فيوليت ” .. ردت بُهت كمن لدغه عقرب ولم يرد .. غابا وكأنهما غاصا فى قاع البحر السحيق ولن يخرجا منه ابداً .. ثم ما لبث ان قاوم الغرق وخرج من دهشته كى يضم وجهها الغائم بسحابات الوجعِ الى صدره المطعون .. ضمها وضم حريقها بكل ما به من الم وقام ليستوقفها قائلاً .. لا اعرف لماذا اتذكر …” كيف يكون الوداع بلحظةِ أول لحظات اللقاء” .. وفى البقعة البعيدة عن العيون عانقها .. همت بالفرار .. استردها الى حضنه .. همت بالفرار .. استعادها .. وما بين الفرار والعودة بدأ البحر يعزف لهما .. يعزف تلك الموسيقى .. موسيقى التانجو ..ليرقصا تلك الرقصة .. رقصة التانجو ..وما بين العناق والمراوغة والفرار والإستقرار وموسيقى البحر الاتينية وما بين توارد الإحساس وتعانق القلوب وهمسات الشفاه وتشابك الأيدى وتلامس الأجساد وتفاهم الحركات وزوبعة اللقاء وبراءة النظرات وتعامد الأعصاب وانغلاق العيون وذوبان الروح فى الروح .. انقضى الوقت .. وتسربت اللحظات الهانئة التى ستبقى فى ذاكرة الوجدان الى الأبد .. ولم يستفيقا من جنونِ اللحظةٍ المقتنصةٍ من العمر إلا على صوت المراكب العائدةِ الى حضن الشط لتعلن انتهاء مواسم الاحلام ؛ وعودة الحياةِ الى ما كانت عليه . فى هذه اللحظة ابتلع البحر موسيقاه ؛ وتوقفا عن الرقص الذبيح ؛ قبلها على جبينها قبلة الوداع ومضيا كلٍ فى طريق عازمان دون اتفاق على غلق النافذة المطلة على الآخر الى الأبد .