حين لا أرى ما رأيت.
حين لا أرى ما رأيت.

بقلم : حنان المطوع .
موهبة التغافل من أرقى المهارات التي يمكن أن يمتلكها الإنسان في تعامله مع الناس ومع الحياة. هي ليست ضعفاً ولا جهلًا، بل فن راقٍ يتطلب وعياً ونضجاً نفسياً. فالتغافل لا يعني أنك لم تفهم أو لم تلاحظ، بل يعني أنك فهمت جيداً، ولكنك قررت أن تمر، أن تتجاوز، وأن لا تمنح كل موقف أو كل كلمة أكثر مما تستحق.
حين يتقن الإنسان فن التغافل، فهو يختار راحة باله على الدخول في جدالات لا تنتهي، ويختار استمرار العلاقات على كسرها لأجل هفوات بسيطة، ويختار أن يرى الصورة كاملة بدل أن يضيع في تفاصيل مزعجة يمكنه ببساطة أن يتجاهلها.
في الحياة اليومية، نواجه مواقف تستفزنا أو تجرحنا أو تحرجنا، وبعضها يحدث من أناس مقربين، أناس لا نقوى على خسارتهم، لكننا ندرك أنهم بشر، يخطئون كما نخطئ، ويغفلون كما نغفل. هنا يأتي دور التغافل. هو خيار الكبار، خيار الناضجين الذين يعلمون أن المثالية لا وجود لها، وأن الاستمرار في العلاقات يتطلب قدراً من التسامح والتغافل والمرونة.
التغافل لا يعني قبول الإهانة ولا السكوت عن الظلم، بل هو وعي بما يستحق أن يواجه، وما لا يستحق أن يرهق النفس. احياناً يكون الرد مضيعة للطاقة، والتجاهل انتصار هادئ لا يراه إلا العاقلون.
قالوا قديماً: “ليس الغبي بسيد في قومه، ولكن سيد قومه المتغابي”، وقالوا ايضاً: “التغافل ذكاء، والتغابي حكمة”، وهذا لأن الإنسان المتغافل يختار معاركه بعناية، ويدرك أن كسب نفسه أهم من كسب النقاش.
فالتغافل ليس انسحاباً، بل سيادة. هو إعلان غير معلن بأنك ترى، وتفهم، وتستطيع الرد، لكنك أسمى من أن تنجر لكل تفصيل عابر. هو رفعة النفس عن الانشغال بما لا يثمر، وارتقاء عن الصغائر التي تنهك الروح ولا تضيف شيئاً. وحده الناضج يدرك أن بعض الردود خسارة، وبعض السكوت انتصار، وأن كتمان الفهم احياناً، أبلغ من آلاف الكلمات.
